"الجرف الصامد" والدروع البشريّة
"تشنّ حركة حماس هجمات على إسرائيل على نحوٍ عشوائيّ، وتفعل ذلك من مناطق مأهولة بالسكّان، وحتّى من الجوامع والمستشفيات والمدارس. وهي تحوّل الجامعات إلى مراكز للذخيرة، وتخزّن صواريخها في الجوامع وفي داخل مدارس الأونروا. يعمل قادتها ومنظوماتها الرقابيّة في الكثير من الأحيان من أقبية المستشفيات، ولا يحارب مقاتلوها بالبزّة العسكريّة الموحّدة (باستثناء ارتدائهم زيّ جيش الدفاع الإسرائيليّ عندما يصبّ الأمر في صالحها). تنتهك حماس جميع الأعراف والمعايير المكتوبة دون أن يهتزّ لها جفن، وبدون ضمير مؤنّب".
آسا كاشير، "أخلاقيّات حملة الجرف الصامد"، Jewish Review of Books، خريف 2014
في الوقت الذي يتّهم فيه آسا كاشير حماس بانتهاك جميع المعايير المكتوبة، فإنّ المعيار الذي يتطرّق إليه في الاقتباس أعلاه هو مبدأ التفريق بين المدنيّين والمحاربين على النحو الذي جرت صياغته في القانون الإنسانيّ الدوليّ (IHL). يشغل كاشير منصب بروفيسور في الفلسفة (إمريتوس) في جامعة تل أبيب، وقد شارك في وضع لائحة النظام الأخلاقيّ للجيش الإسرائيليّ. ويمضى في تساؤلاته: "ما الذي يجب على إسرائيل فعله حيال هذا الوضع؟ هل يُحصّن وجود أعداد غفيرة من غير المحاربين على مقربة من بناية تشارك على نحوٍ مباشر في الهجمات الإرهابيّة على إسرائيل تلك البناية من الهجمات الإسرائيليّة"؟ إجابة كاشير قاطعة ولا لبس فيها. "الإجابة هي [وعليها أن تكون] لا. لا تستطيع إسرائيل مصادرة قدرتها على حماية مواطنيها من الهجمات لأنّ الإرهابيّين يختبئون ببساطة خلف غير المحاربين".(2)
بحسب بيانات أوّليّة جمعتها الأمم المتّحدة، قُتل في الحملة العسكريّة التي أطلقت عليها إسرائيل اسم "الجرف الصامد" 2,133 فلسطينيًّا على الأقلّ، ومنهم 362 شخصًا لم يُتعرَّف عليهم، أو لم تتحدّد مكانتهم حتّى كتابة هذه السطور. ومن بين من جرى التحقُّق من هُويّاتهم، يُعتقد أنّ 1,489 هم من المدنيّين، 500 منهم من الأطفال (187 من الإناث وَ 313 من الذكور)، وَ 257 من النساء، وَ 282 من أعضاء الجماعات المسلّحة. الكثير من القتلى هم أبناء لعائلات كاملة، وهنالك على الأقلّ 142 عائلة فلسطينيّة قُتل ثلاثة أو أكثر من أبنائها في الحادث ذاته، وبما مجموعه 739 قتيلاً.(3)على الرغم من هذه المعلومات، ما من شكّ (بحسب كاشير) في أنّ الملامة على مقتل مئات المدنيّين في قطاع غزّة "تقع على حماس التي ضحّت بداية برفاهيتهم (من خلال بناء الأنفاق الهجوميّة بدل المدارس، وما إلى ذلك) ثمّ بأرواحهم من خلال حربها المتواصلة ضدّ إسرائيل.(4)
في حقيقة الأمر، إنّ غالبيّة إصدارات كاشير في السنوات الأخيرة تتمحور في العلاقة بين الأخلاق وحالات الاقتتال. يمكن تعريف عمله في هذا الحقل بأنّه مسعى لتوفير درع فلسفيّ وأخلاقيّ منهجيّ للعنف الإسرائيليّ والاحتلال الكولونياليّ. يدّعي كاشير، على سبيل المثال، أنّ إسرائيل لم يتبقَّ لها من الناحية الأخلاقيّة أيّ خيار باستثناء قتل المدنيّين؛ وأنّها اعتمدت مبادئ نظريّة الحرب العادلة ومبادئ القانون الإنسانيّ الدوليّ. بحسب مفاهيم نظريّة الحرب العادلة، تملك إسرائيل حقّ الدفاع عن النفس وواجب حماية مواطنيها قبل أن تحمي غير المواطنين. أمّا بمفردات القانون الإنسانيّ الدوليّ، فقد امتثلت إسرائيل -بحسب رأيه- لمبدأَيِ التمييز والتناسُب (proportionality). "بحسب المعتاد، يملك الضابط المسؤول عن مهمّة عسكريّة معيّنة أكثر من سِواه إمكانيّة تقييم الفائدة المرجوّة من تنفيذها. في جيش الدفاع الإسرائيليّ، يستعين الضابط الميدانيّ بـِ "موظّف سكّان" بغية تقييم درجة الأضرار الجانبيّة المحتمَلة. في الإمكان مهاجمة الدروع البشريّة مع الإرهابيّين، لكن ثمّة ضرورة لبذل مجهود في سبيل تقليص الأضرار الجانبيّة في صفوفهم".(6)على هذا النحو يكرّر كاشير الادّعاءات التي يطرحها الجيش والحكومة في إسرائيل، اللذين يدّعيان أنّ حماس قامت خلال حملة "الجرف الصامد" باستخدام الدروع البشريّة على نحوٍ عشوائيّ كمنهج حربيّ، وعليه فإنّ الملامة تقع عليها في كلّ ما يتعلّق بمقتل مئات المدنيّين.
وكما تؤكّد التسويغات التي يسوقها كاشير، برز خطاب الدروع البشريّة في حرب غزّة الأخيرة، ويعتبر أحد المواقع التي يجري فيها تداول أخلاقيّات العنف. في ما يلي، سنقوم بتحليل الكيفيّة التي جرى فيها استخدام المفهوم القانونيّ للدروع البشريّة في حرب غزّة عام 2014. نبدأ بتعريف مقتضب للدروع البشريّة بحسب القانون الدوليّ، ثمّ نستعرض بإيجاز كيف ظهر خطاب الدروع البشريّة في سياق إسرائيل /فلسطين. لاحقًا، سنقوم بمراجعة الطريقة التي استخدمت فيها إسرائيل مصطلح "الدروع البشريّة" في حرب غزّة الأخيرة من خلال تحليل سلسلة من البوسترات (الملصقات) التي نشرها الجيش الإسرائيليّ في حسابه في موقعَي التواصل الاجتماعيّ فيسبوك وتويتر، وكذلك على مدوّنته الإلكترونيّة. ومن قَبيل الاستخلاص، سندّعي أنّ تعويم عبارة الدرع البشريّ يساعد الأنظمة الليبراليّة على تأسيس شرعيّة وأخلاقيّات قتل المدنيّين، وفي الوقت ذاته منح الحصانة لمن قاموا بالقتل الفعليّ.
الدروع البشريّة في القانون الدوليّ
الدروع البشريّة هي استخدام أشخاص يحميهم القانون الإنساني الدوليّ (كأسرى الحرب أو المدنيّين) لردع هجمات على المقاتلين أو على المواقع العسكريّة.(6) وضع المدنيّين في مسارات القطارات والمطارات، أو في أيّ موقع يُعتبر هدفًا شرعيًّا للعدوّ ابتغاءَ منع الأخير من ضربه، يُعتبر غير شرعيّ بحسب القانون الدوليّ الإنسانيّ. وعلى نفس المنوال، إنّ شنّ عمليّات عسكريّة من داخل مواقع مدنيّة (لا سيّما من المدارس والمستشفيات والأماكن الدينيّة والأحياء المدنيّة، وحتّى المناطق الصناعيّة) يُعتبر عملاً غير شرعيّ، وذلك بسبب التحويل المحتوم للمدنيّين إلى دروع بشريّة. المادّة 28 من معاهدة جنيف تحدّد ما يلي " لا يجوز استغلال أيّ شخص محميّ بحيث يجعل وجوده بعض النقاط أو المناطق بمنأى عن العمليّات الحربيّة".(7) البروتوكول الأوّل الإضافيّ للمعاهدة من العام 1977 يشرح ذلك في المادّة 51 (7):
لا يجوز استخدام وجود السكّان المدنيّين أو الأشخاص المدنيّين أو تحرّكاتهم لغرض حماية نقاط أو مناطق معيّنة ضدّ العمليّات العسكريّة، ولا سيّما في محاولة درء الهجوم عن الأهداف العسكريّة أو تغطية أو تحبيذ أو إعاقة العمليّات العسكريّة. ولا يجوز أن يوجّه أطراف النـزاع تحرّكات السكان المدنيّين أو الأشخاص المدنيّين بقصد محاولة درء الهجمات عن الأهداف العسكريّة أو تغطية العمليّات العسكريّة. (8)
لاحقًا قام نظام روما الأساسيّ للمحكمة الجنائيّة الدوليّة في العام 1998 بتصنيف استخدام الدروع البشريّة كجريمة حرب. (9)لا يمكن التعامل مع الأهمّيّة التي تُضفى على الموادّ المتعلّقة بالدروع البشريّة في القانون الدوليّ بأنّها نوع من المبالغة، وذلك لأنّ المناطق المدينيّة (الحضريّة) تتحوّل سريعًا إلى أبرز مناطق الحروب المعاصرة. ويقول ستيفان غراهام إنّ المناطق المدينيّة "أصبحت مانعات الصواعق للعنف السياسيّ الدائر في كوكبنا"، بينما "يصوغ الاقتتال على نحو كبير حياتنا المدينيّة".(10)التزايد الدراماتيكيّ في الاقتتال المدينيّ يتضمّن وجود المدنيّين في الخطوط الأماميّة للقتال لا محالة. وبما أنّ الوضع كذلك، فمن الناحية العملية المعارك في المدن تنطوي على ممارسات حربيّة تشمل بحسب القانون الإنسانيّ استخدام الدروع البشريّة.
تطوّر خطاب الدروع البشريّة في إسرائيل
في الكثير من المرّات، كان المدنيّون في واجهة العنف في إسرائيل /فلسطين. على الرغم من ذلك، لم يبدأ استخدام خطاب الدروع البشريّة إلاّ في منتصف الانتفاضة الثانية، عندما قرّرت بعض المنظّمات الليبراليّة غير الحكوميّة استخدام بنود القانون الدوليّ الإنسانيّ التي تتناول الدروع البشريّة بغية انتقاد ممارسات شاعت في صفوف الجيش الإسرائيليّ. استعرضت منظّمة حقوق الإنسان الإسرائيليّة "بِتْسِيلِم" في تقرير بعنوان الدروع البشريّة كيف قام الجنود الإسرائيليّون خلال العمليّة العسكريّة التي كانت في العام 2002 (والتي أُطلِق عليها الاسم "الدرع الواقي")، بإجبار فلسطينيّين أحيانًا على الدخول إلى بنايات اشتُبِهَ في أنّها مفخَّخة، وأرغموهم كذلك على إزالة أغراض مشبوهة من الطرقات، والوقوف داخل منازل وضَعَ الجنود فيها ثكنات عسكريّة، والسير أمام الجنود لحمايتهم من الرصاص. (11) قبل نشر هذا التقرير ببضعة أشهر، نشرت منظّمة "هيومان رايت واتش" تقريرًا بعنوان في ساعة مظلمة وثّق في الحملة العسكريّة ذاتها كيف أجبر الجيش الإسرائيليّ، على نحوٍ روتينيّ، مدنيّين فلسطينيّين على تنفيذ أمور عرّضت حياتهم للخطر، وساعدت الجيش في عمليّاته العسكريّة. (12)شجبت هذه المنظّمات غير الحكوميّة إسرائيل وأدانتها على انتهاك المبدأ الأساسيّ المُدْرَج في القانون الإنسانيّ الدوليّ حول حصانة المدنيّين.
التمست بعض المنظّمات الحكوميّة للمحكمة العليا ضدّ رئيس الوزراء ووزير الدفاع والجيش الإسرائيليّ، وطالبت بحظر استخدام الدروع البشريّة، سعيًا منها لإيقاف هذا الشكل من أشكال عنف الدولة. (13)أصدرت المحكمة العليا قرارها في العام 2005. من خلال اقتباس جين سايمون بيكتي الذي كتب التفسير الرسميّ لاتّفاقيّات جنيف الرابعة، انتقد رئيس المحكمة العليا أهارون براك استخدام الناس كدروع بشريّة، ووصف العمل بأنّه عمل "بربريّ وقاسٍ".(14) وأضاف أنّ "المبدأ الأساس، الذي يشكّل قاسمًا مشتركًا لجميع القوانين التي تتناول الاحتلال العسكريّ، هو حظر استخدام السكّان المحميّين كجزء من المساعي الحربيّة لجيش الاحتلال". بالإضافة إلى ذلك، ادّعى القاضي براك أنّ القانون الإنسانيّ يستوجب عمل كلّ ما هو ممكن لعزل السكّان المدنيّين عن النشاط العسكريّ؛ هذه القاعدة تشير في المقابل إلى وجوب عدم إحضار السكّان المحلّيّين (وإنْ وافقوا على ذلك) إلى مناطق القتال، وذلك أنّ فكرة الموافقة عديمة المعنى في حالة عدم التكافؤ بين القوّة المحتلّة والسكّان المحلّيّين. (15)في هذه الحالة، أخذت المحكمة العليا بعين الاعتبار السياقَ غير المتكافئ الذي ساد وانتشر فيه العنف، وأصدرت قرارًا قضائيًّا يحظر استخدام الناس كدروع عسكريّة.
بعد مضيّ عام واحد على صدور قرار الحكم، نشر مركز المعلومات حول الاستخبارات والإرهاب (وهو مركز أبحاث إسرائيليّ ذو ميول محافظة، وتقع مكاتبه داخل وزارة الأمن الإسرائيليّة) تقريرًا من 305 صفحات حول استخدام حزب الله للمدنيّين اللبنانيّين كدروع بشريّة خلال حرب العام 2006 (16) أدخل التقرير تغييرات طفيفة على الادّعاءات التي طرحتها منظّمات حقوق الإنسان الإسرائيليّة والدوليّة ضدّ الجيش الإسرائيليّ والتي صادقت عليها المحكمة العليا. قام مركز الأبحاث الإسرائيليّ المناهض للإرهاب باتّهام أعداء إسرائيل باستخدام الدروع البشريّة من خلال استملاك المنطق الذي طرحته المنظّمات غير الحكوميّة الحقوقيّة الليبراليّة. علاوة على ذلك، وظّف مركز الأبحاث انتهاكات حزب الله لغرض إضفاء الشرعيّة على قتل إسرائيل للمدنيّين اللبنانيّين.
أشار مركز الأبحاث العسكريّ أنّ هذا "الاستغلال" للسكّان المدنيّين "يُعتبر جريمة حرب وانتهاكًا فظيعًا للقوانين الدوليّة التي تنطبق على الصراعات المسلّحة"، وادّعى أنّ "القصف الجوّيّ والهجمات البرّيّة التي شنّها الجيش الإسرائيليّ ضدّ أهداف حزب الله الواقعة داخل مراكز مدنيّة نُفذّت بالتساوق مع القانون الدوليّ الذي لا يضمن الحصانة للمنظّمات الإرهابيّة التي تتعمّد الاختباء خلف المدنيّين وتقوم باستخدامهم كدروع بشريّة" (17) بالتالي فإنّ استخدام الدروع البشريّة لا يشكّل انتهاكًا فحسب، بل يمكنه المساعدة في الحروب المدينيّة المعاصرة غير المتكافئة في تثبيت الادّعاء أنّ موت "المدنيّين غير المستهدَفين" لا يعدو كونه أضرارًا جانبيّة مرافقة. بعد مرور بضع سنوات، في أعقاب الحملة العسكريّة الإسرائيليّة في غزّة التي أُطلِقَ عليها الاسم "الرصاص المصبوب" (شتاء 2008-2009)، نشر مركز الأبحاث المحافظ إيّاه تقريرًا تحت العنوان "شهادات على استخدام السكّان المدنيّين كدروع بشريّة" (18) في هذا التقرير، وفي تقارير أخرى أصدرها المركز في الأشهر التالية، قُدّمت صور وشهادات أدلّةً على الطريقة التي استخدمت فيها حماس (ومجموعات مسلّحة أخرى) المنازل والمدارس والمساجد ابتغاءَ شنّ عمليّات عسكريّة. (19)
توصيفات مركز المعلومات حول الاستخبارات والإرهاب تساعد في ترسيخ ادّعاء إيال فايتسمان أنّ المدن ليست مواقع المعارك، بل إنّها وسيلة القتال؛ لأنّ الفضاءات الحضريّة تتحوّل على نحوٍ متزايد إلى مسارح رئيسيّة للعنف. (20) بناء على ذلك، ثمّة تداخل وتشابك بين المحاربين وغير المحاربين وبين الأبنية العسكريّة وتلك المدنيّة خلال المعارك المدينيّة. لكن، بما أنّ المدنيّين وغير المحاربين محميّون بحسب القانون الإنسانيّ الدوليّ، يخلق هذا التشابك والتداخل مشكلة بالنسبة للأنظمة الليبراليّة التي تشدّد على مشروعيّة عمليّاتها بغية التأكيد على أخلاقيّات العنف الذي تمارسه. وكما تُبيّنُ لالي خليلي في سياق مختلف، فإنّ التشديد على الإجراء القانونيّ "يسير يدًا بيد مع الرغبة في التحسين الذي يشكّل جزءًا لا يتجزّأ من الغزوات الإمبرياليّة الليبراليّة، والاحتلالات والمحاصرة. إذا كانت نيّتنا تحسين ظروف معيشة الناس الأقلّ مرتبة (من خلال الوهب من حضارتنا، أو التنمية، أو العَصْرَنة، أو صنع الديمقراطيّة)، عندئذ لا أهمّيّة تُذكر لِما يحدث في المسار، وإن كان ما يحدث في المسار هو القسوة والتعذيب أو الحبس لمدّة غير محدودة. النيّة الطيّبة للتحسين هي إحدى السِّمات المركزيّة للأعمال الحربيّة التي يشنّها الليبراليّ، وهي ما تميّزها كذلك عن "القبائل" غير الليبراليّة".(21)
تحليل خليلي للحروب الليبراليّة والرغبة في تأطير نشرها للعنف كعمل قانونيّ، وبالتالي أخلاقيّ، يساعد في تفسير سبب بروز خطاب الدروع البشريّة في السياق الإسرائيليّ وغيابه شبه المطلق بالنسبة للأنظمة التي لا تدّعي (في هذه النقطة الزمنيّة على الأقلّ) أنّها تتمسّك بمبادئ حقوق الإنسان والنزعة الإنسانيّة الليبراليّة، كسوريا -على سبيل المثال-. فضلاً عن ذلك، إنّ الاحتماء بالدروع البشريّة يوفّر مثالاً عينيًّا للكيفيّة التي يعمل فيها المنطق الليبراليّ في الحروب المعاصرة. من هنا، إنّ تحليل الكيفيّة التي جرى من خلالها توظيفه، خلال حرب إسرائيل الأخيرة في غزّة (2014)، يوفّر لنا عددًا من الاستنتاجات العميقة حول السبل الرقيقة التي تساعد فيها الأخلاقيّات الليبراليّة في صياغة وبلورة العنف، ويساعد فيها العنف في صياغة الأخلاقيّات الليبراليّة.
الجرف الصامد
البوستر الذي جاء بعنوان "أين يخبّئ إرهابيّو غزّة أسلحتهم" (في الرسم ذي الرقم 2) يشكّل مثالاً برادايميًّا. ويعبّر النصّ المتضمّن عن الاستنتاج المستوجب: المدارس والمساجد والمنازل والمستشفيات جميعها أهداف شرعيّة، إذ يُفترض أنّها تضمّ مستودعات للأسلحة. هذه هي الرسالة كذلك في البوستر "متى يكون المنـزل بيتا" (في الرسم ذي الرقم 3) والذي يشكّل نظرة تقريبيّة على أحد رسوم البوستر الذي سبقه، ويُظهر كيف يقوم الفلسطينيّون بإخفاء الصواريخ في منازل مدنيّة. المنطق بسيط للغاية: ما دامت حماس تخفي الأسلحة في المنازل (عمل غير شرعيّ)، تستطيع إسرائيل قصفها باعتبارها أهدافًا عسكريّة (عمل شرعيّ). ضمن هذه المعركة السيميائيّة حول مدلولات الهياكل المعماريّة، تُحدَّد وظيفة واحدة (إخفاء الأسلحة) من بين وظائف عديدة قائمة (بيت، مأوى، حميميّة، وما شابه) تحدِّد مكانة موقع مدينيّ (وهو المنـزل في الحالة الماثلة أمامنا)، على النحو الذي يفقد فيه شكل البناية معناه المتعارَف عليه.
التقاطع الحتميّ بين الوظائف المدنيّة والعسكريّة في القتال المدينيّ -إلى جوار إعادة إنتاج مغزى الهياكل المعماريّة المدينيّة (والذوات البشريّة كذلك)- هو الذي يضع تحدّيات جديدة أمام القانون الدوليّ، وأمام صياغة العنف الأخلاقيّ بالنسبة للأنظمة الليبراليّة. من هنا، إنّ السؤال المطروح في الرسم الثالث "متى تتحوّل إلى هدف عسكريّ شرعيّ؟" يجدر فهمه على أنّه سؤال بلاغيّ لا ينتظر الإجابة. الإجابة التي ينتظرها الجيش الإسرائيليّ هي كالتالي: "جميع المنازل في غزّة يمكن لها أن تكون أهدافًا شرعيّة، لأنّ من المحتمل أنّ جميع المنازل ليست بيوتًا". على هذا النحو يحلّ الجيش الإسرائيليّ المعضلة الأخلاقيّة التي تقترن بقصف المواقع المدنيّة.
على الرغم من ذلك، لا تقتصر الحرب الإسرائيليّة على إعادة إنتاج المعنى للهياكل المعماريّة، بل كذلك إلى تحويل الكيانات البشريّة إلى أضرار جانبيّة مرافقة، وإلى ذوات يمكن قتلها دون انتهاك القانون الدوليّ. شرعنة القصف العشوائيّ الذي تمارسه إسرائيل يرتكز على انفصام أخلاقيّ عميق بين الإسرائيليّين والفلسطينيّين. في الملصق "إسرائيل تستخدم الأسلحة لحماية مدنيّيها. حماس تستخدم المدنيّين لحماية الأسلحة" (الرسم 4)، يجري تصوير الفلسطينيّين "همجًا" يتجاهلون القواعد الأساسيّة للقانون الدوليّ. هذه الاستعارة المجازيّة كرّرها إيلي فيزل الذي قام خلال حملة "الجرف الصامد" بنشر إعلان تجاريّ في صحيفة الجارديان بالتعاون مع منظّمة “This World: The Values Network” بعنوان : قبل 3,500 عام رفض اليهود التضحية بطفل. الآن جاء دور حماس".(22) هذا التصريح العنصريّ المعسول يضمّ مماثلة جزئيّة بين حماس وكتائب إس.إس النازيّة. كتب إيلي فيزل في دعايته: "رأيت بأمّ عيني أطفالاً يهود يُلقَوْنَ في النار. وها أنا أرى أطفالاً مسلمين يستَخدمون دروعًا بشريّة". المساواة بين الفلسطينيّين والنازيّين واضحة لا لَبْس فيها.
هذا هو كذلك المعنى المبطّن للبوستر الذي يظهر فيه قائد أركان الجيش الإسرائيليّ وهو يقول: حتّى عندما نقوم بعمليّات القصف، نتذكّر أنّ هناك مدنيّين في غزّة. لقد حوّلتهم حماس إلى رهائن" (الرسم 5). المنطق واضح مرّة أخرى. جميع المدنيّين في غزّة قبضَ عليهم رهائن من قِبَل حماس، وهذا الأمر يُعتبر جريمة حرب وانتهاكًا فظيعًا للقانون الدوليّ الذي ينظّم الصراعات المسلّحة. من هنا، هذه القراءة توفّر مسوِّغًا قانونيًّا وأخلاقيًّا ضدّ الاتّهامات بأنّ إسرائيل هي التي تقتل المدنيّين. الانتهاك المفترَض لحقوق الإنسان من قِبل الفلسطينيّين ضدّ الفلسطينيّين (أي الأخذ رهائنَ، والدروع البشريّة) يصبح أداة لشَرْعَنة العنف العشوائيّ والمدمِّر الذي تمارسه قوّات الاحتلال.
[ الرسم 5] [الرسم 4]
من هنا، إنّ استخدام الدروع البشريّة لا يشكّل انتهاكًا فقط. في الحروب المدينية المعاصرة وغير المتكافئة، يساعد اتّهام العدوّ باستخدام الدروع البشريّة على ترسيخ الادّعاء أنّ موت "المدنيّين غير المستهدَفين" يشكّل "أضرارًا جانبيّة" مقبولة. عندما يشكّل جميع المدنيّين دروعًا بشريّة محتمَلة، وعندما يمكن لكلّ مدنيّ أن يتحوّل إلى رهينة لدى العدو، عند ذاك يتحوّل جميع مدنيّي العدوّ إلى من يَحِلّ قتلُهم. وكي يصبح كلّ ذلك مقنعًا، يُصوّر الجيش الإسرائيليّ السياق غير المتكافئ الذي يطلق فيه هذا الجيش العنان لعنفه ضدّ جميع السكّان، يصوّره بأنّه سياق متكافئ. يصوّر هذا الأمر -على سبيل المثال- من خلال البوستر "البعض يقصف الملاجئ التي تُؤوي الناس والبعض يُؤوي القنابل في الملاجئ" (الرسم 6). هنا تُعْرَض حالة متطرّفة في عدم تكافُئها على أنّها متكافئة. سكّان غزّة يُقصَفون بطائرات إف 16 وطائرات بدون طيّار، لكنّهم لا يملكون الملاجئ التي تحميهم من القنابل، وليس لديهم أيّ مكان يختبئون فيه. مواطنو إسرائيل يُقصفون -غالبًا- بصواريخ مرتجلة، اعترَضت غالبيّتَها صواريخُ القبّة الحديديّة. تتوافر لغالبيّة السكّان في إسرائيل إمكانيّة الوصول إلى الملاجئ، ويستطيعون الاختباء والخروج إلى خارج نطاق الصواريخ.
[الرسم 6]
هذه الصور التوضيحيّة الشديدة الفاعليّة، التي نشرها الجيش الإسرائيليّ عبـر وسائل الإعلام الاجتماعيّة، تسعى إلى تحويل الحضور المكثّف للمدنيّين في المناطق التي تقصفها إسرائيل إلى فعلٍ مشبوه على الرغم من أنّ هذه المناطق هي مراكز مدينيّة. بالنسبة للفلسطينيّين الذين يقطنون في غزّة، قضاء الوقت في بيوتهم وارتياد المسجد والذهاب إلى المستشفى أو المدرسة يتحوّل إلى مشروع خطير لأنّ كلّ واحدة من هذه الأبنية المعماريّة قد يتحوّل إلى هدف في كلّ لحظة. لم يَعُد المرءُ يستطيع الافتراضَ ببساطة أنّ وجود جماهير بشريّة في فضاءات مدنيّة يشكّل حماية من القوة الفتّاكة للدول اللبراليّة التي تملك قدرات تكنولوجيّة فائقة. لذا، ففي إسرائيل يساعد نشر المصطلح "الدروع البشريّة" الدولةَ الليبرالية على شَرْعَنة وقَوْنَنة القتل المكثَّف للمدنيّين، ويساعد في المحافظة على مكانها بين "الأمم المتحضّرة".
هوامش:
[1] بروفيسور نيف غوردون: محاضر في قسم نظام الحكم والسياسة، جامعة بن-غوريون، بئر السبع / د. نيكولا بيروغيني: باحث في جامعة براون، الولايات المتحدة. يظهر اسما الكاتبان بحسب الترتيب الأبجدي، وقد ساهم الاثنان في كتابة هذه المقالة على نحو متساو.
[1].يظهر اسما الكاتبان بحسب الترتيب الأبجدي، وقد ساهم الاثنان في كتابة هذه المقالة على نحو متساو.
[2] [3] [4] [5] [6] [7] Geneva Convention (IV) Relative to the Protection of Civilian Persons in Time of War, 1949, Article 28.
[8] Protocol Additional to the Geneva Conventions of August 12, 1949, and Relating to the Protection of Victims of International Armed Conflicts, 1977, Art. 51(3), 1125 U.N.T.S. 3.
[9] Statute of the International Criminal Court, 1998, Art. 8(2)(b)(xxiii), U.N. Doc. A/CONF. 183/9, 37 I.L.M. 1002 (1998). Art. 8(2) (b)xiii.
[10] [11] [12] [13] [14] [15] [16] [17] [18] [19] [20] [21] [22] Elie Weisel, "Jews rejected child sacrifice 3,500 years ago. Now it`s Hamas turn." Ad published in The Guardian, September 10, 2014 online athttp://www.algemeiner.com/wp-content/uploads/2014/08/Elie-Wiesel-Hamas-Child-Sacrifice.pdf